الرئيسية » » عقيدة الشعراني رحمه الله تعالى

عقيدة الشعراني رحمه الله تعالى


عقيدة الشعراني رحمه الله تعالى :


اعلم يا أخي أنَّ القوم أجمعوا على أنَّ الله تعالى إله واحد لا ثاني له ، منزه عن الصاحبة والولد ، مالك لا شريك له ، صانع لا مدبر معه ، موجود بذاته من غير افتقار إلى موجد يوجده ، بل كل موجود مفتقر إليه في وجوده ، فالعالم كله موجود به ، وهو تعالى موجود بذاته ، لا افتتاح لوجوده ، ولا نهاية لبقائه ، بل وجوده مطلق مستمر ، قائم بنفسه ، ليس بجوهر فيقدر له المكان ، ولا بعرض فيستحيل عليه البقاء ، ولا بجسم فتكون له الجهة والتلقاء ، مقدس عن الجهة والأقطار ، مرئي بالقلوب والأبصار .

استوى تعالى على عرشيه كما قاله ، وعلى المعنى الذي أراده ، كما أن العرش وما حواه به استوى ، له الآخرة والأولى ، ليس له مثل معقول ، ولا دلت عليه العقول ، لا يحده زمان ، ولا يقله مكان ، والآن على ما عليه كان ، خلق المتمكن والمكان ، وأنشأ الزمان ، وقال : " أنا الواحد الحي الذي لا يؤوده حفظ المخلوقات ، ولا يرجع إليه صفة لم يكن عليها من صفة المصنوعات " .

تعالى أن تحله الحوادث أو يحلها ، أو تكون قبله أو يكون قبلها ، بل يقال : " كان ولا شيء معه " ، لأن القبل والبعد من صنع الزمان الذي أبدعه ، فلا نطلق عليه تعالى ما لم يطلقه على نفسه ، فإنه أطلق على نفسه : " الأول " و " الآخر " ، لا القبل والبعد .

فهو القيوم الذي لا ينام ، والقهار الذي لا يرام ، { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير }

خلق العرش وجعله حد الاستواء ، وأنشأ الكرسي وأوسعه الأرض والسماء ، اخترع اللوح والقلم الأعلى ، وأجراه كتابا في خلقه إلى يوم الفصل والقضاء .

أبدع العالم كله على غير مثال سبق ، وخلق الخلق ، وأخلق ما خلق .

أنزل الأرواح في الأشباح أمنا ، وجعل هذه الأشباح المنزلة إليها الأرواح في الأرض خلفا ، وسخر لها ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه ، فلا تتحرك ذرة إلا عنه .

خلق الكل من غير حاجة إليه ، ولا موجب أوجب ذلك عليه ، لكن علمه بذلك سبق فلا بد أن يخلق ما خلق .

فـ { هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو على كل شيء قدير } ، أحاط بكل شيء علما ، وأحصى كل شيء عددا ، يعلم السر وأخفى ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، كيف لا يعلم شيئا خلقه { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } علم الأشياء قبل وجودها ، ثم أوجدها على حد ما علمها ، فلم يزل عالما بالأشياء ، لم يتجدد له علم عند تجدد الأشياء بعلمه .

أتقن الأشياء وأحكمها ، يعلم الكليات والجزئيات على الإطلاق ، فهو عالم الغيب والشهادة ، فتعالى عما يشركون .

فعال لما يريد ، فهو المريد للكائنات في عالم الأرض والسماوات ، لم تتعلق قدرته تعالى بإيجاد شيء حتى أراده ، كما أنه لم يرده سبحانه حتى علمه ، إذ يستحيل أن يريد سبحانه وتعالى ما لم يعلم ، أو يفعل المختار المتمكن من ذلك الفعل ما لا يريده ، كما يستحيل أن توجد هذه الحقائق من غير حي ، كما يستحيل أن تقوم هذه الصفات بغير ذات موصوفة بها .

فما في الوجود طاعة ولا عصيان ، ولا ربح ولا خسران ، ولا عبد ولا حر ، ولا برد ولا حر ، ولا حياة ولا موت ، ولا حصول ولا فوت ، ولا نهار ولا ليل ، ولا اعتدال ولا ميل ، ولا بر ولا بحر ، ولا شفع ولا وتر ، ولا جوهر ولا عرض ، ولا صحة ولا مرض ، ولا فرح ولا ترح ، ولا روح ولا شبح ، ولا ظلمة ولا ضياء ، ولا أرض ولا سماء ، ولا تركيب ولا تحليل ، ولا كثير ولا قليل ، ولا غداة ولا أصيل ، ولا بياض ولا سواد ، ولا سهاد ولا رقاد ، ولا ظاهر ولا باطن ، ولا متحرك ولا ساكن ، ولا يابس ولا رطب ، ولا قشر ولا لب ، ولا شيء من جميع المتضادات والختلفات والمتماثلات ، إلا وهو مراد للحق تعالى ، وكيف لا يكون مرادا له وهو أوجده ، فكيف يوجِد المختارُ ما لا يريد ، لا راد لأمره ، ولا معقب لحكمه ، يؤتي الملك من يشاء ، وينزع الملك ممن يشاء ، ويعز من يشاء ، ويذل من يشاء ، ويضل من يشاء ، ويهدي من يشاء ، ما شـاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن .

لو اجتمع الخلائق كلهم على أن يريدوا شيئا لم يرد الله تعالى لهم أن يريدوه ما أرادوه ، أو أن يفعلوا شيئا لم يرد الله إيجاده وأرادوه ما فعلوه ولا استطاعوا ، ولا أقدرهم عليه .

فالكفر ، والإيمان ، والطاعة ، والعصيان من مشيئته وحكمته وإرادته ، ولم يزل سبحانه وتعالى موصوفا بهذه الإرادة أزلا والعالم معدوم ، ثم أوجد العالم من غير تفكر ولا تدبر ، بل أوجده عن العلم السابق ، وتعيين الإرادة المنزهة الأزلية القاضية على العالم بما أوجدته عليه من زمان ومكان وأكوان وألوان ، فلا مريد في الوجود على الحقيقة سواه ، إذ هو القائل سبحانه { وما تشاءون إلا أن يشاء الله }

وأنه تعالى كما علم ما حكم ، وأراد فخص ، وقدر فأوجد ، كذلك سمع ورأى ما تحرك وسكن ، أو نطق في الورى ، من العالم الأسفل والأعلى ، لا يحجب سمعه البعد فهو القريب ، ولا يحجب بصره القرب فهو البعيد .

يسمع كلام النفس في النفس ، وصوت المماسة الخفية عند اللمس ، يرى السواد في الظلماء ، والماء في الماء ، ولا يحجبه الامتزاج ، ولا الظلمات ولا النور ، وهو السميع البصير .

تكلم سبحانه ، لا عن صمع متقدم ، ولا سكوت متوهم ، بكلام قديم أزلي كسائر صفاته من علمه وإرادته وقدرته ، كلم به موسى عليه الصلاة والسلام ، سماه التنزيل والزبور والتوراة والإنجيل والفرقان ، من غير تشبيه ولا تكييف ، إذ كلامه تعالى من غير لهاة ولا لسان ، كما أن سمعه من غير أضمخة ولا آذان ، كما أن بصره من غير أعين ولا أجفان ، كما أن إرادته من غير قلب ولا جنان ، كما أن علمه من غير اضطرار ولا نظر في برهان ، كما أن حياته من غير بخار تجويف القلب حدث عن امتزاج الأركان ، كما أنَّ ذاته لا تقبل الزيادة ، ولا النقصان .


فسبحانه سبحانه من بعيد دان ، عظيم السلطان ، عميم الإحسان ، جسيم الامتنان ، كل ما سواه فهو عن وجوده فائض ، وفضله وعدله الباسط والقابض ، أكمل صنع العالم وأبدعه حين أوجده واخترعه ، لا شريك له في ملكه ، ولا مدبر معه فيه ، إن أنعم فنَعَّم فذلك فضله ، وإن أبلى فعذَّب فذلك عدله ، لم يتصرف في ملك غيره فينسب إلى الجور والحيف ، ولا يتوجه عليه لسواه حكمٌ فيتصف بالجزع لذلك والخوف ، كل ما سواه فهو تحت سلطان قهره ، ومتصرف عن إرادته وأمره ، فهو الملهم نفوس المكلفين للتقوى والفجور * ، فهو المتجاوز عن سيئات من شاء هنا وفي يوم النشور ، لا يحكم عدله في فضله ، ولا فضله في عدله ؛ لقدم صفاته كلها ، وتنزهها عن الحدوث .

أخرج العالم قبضتين ، وأوجد لهم منزلتين
فقال : هؤلاء للجنة ولا أبالى ، وهؤلاء للنار ولا أبالي ، ولم يعترض عليه معترض هناك إذ لا موجود كان ثَمَّ سواه ، فالكل تحت تصريف أسمائه ، فقبضةٌ تحت أسماء بلائه ، وقبضةٌ تحت أسماء آلائه .

لو أراد سبحانه أن يكون العالم كله سعيدا لكان ، أو شقيا لما كان في ذلك من شان ، لكنه سبحانه لم يرد ذلك ، فكان كما أراد ، فمنهم الشقي والسعيد ، هنا وفي يوم المعاد ، فلا سبيل إلى تبدل ما حكم عليه القديم وقد قال تعالى في حديث فرض الصلاة : (( هي خمس ، وهي خمسون ، { ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد } )) ؛ لتصرفي في ملكي ، وإنقاذ مشيئتي في ملكي .

وذلك لحقيقة عميت عنها البصائر ، ولم تعبر عليها الأفكار ولا الضمائر إلا بوهب إلهي ، وجود رحماني ، لمن اعتني اللهُ به من عباده ، وسبق له ذلك في حضرة إشهاده ، فعلم حين أعلم أنَّ الألوهية أعطت هذا التقسيم ، وأنها من دقائق القديم ، فسبحان من لا فاعل سواه ، ولا موجود بذاته إلا إياه { والله خلقكم وما تعملون } { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } { قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين }

وكما شهدنا لله تعالى بالوحدانية وما يستحقه من الصفات العلية ، كذلك نشهد ليسدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة إلى جميع الناس كافة ، بشيرا ونذيرا ، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم بلغ جميع ما أنزله إليه من ربه ، وأدى أمانته ، ونصح أمته .

وقد ثبت أنه صلى الله عليه وآله وسلم وقف في حجة الوداع على كل من حضره من الأتباع ، فخطب وذكَّر ، وخوَّف وأنذر ، ووعد وأوعد ، وأمطر وأرعد ، وما خصَّ بذلك التذكير أحدا دون أحد عن إذن الواحد الصمد
ثم قال : (( " ألا هل بلغت " ؟
فقالوا جميعا : " قد بلغت يا رسول الله "
فقال صلى الله عليه وآله وسلم : " اللهم فاشهد " ))

ونؤمن بكل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، مما علمنا ومما لم نعلم .

فمما علمنا وتحققنا مما جاء به وقرر ، أنَّ الموت عن أجل مسمى عند الله إذا جاء لا يؤخر ، فنحن مؤمنون بهذا إيمانا لا ريب فيه ولا شك ، كما آمنا وأقررنا وصدَّقنا أنَّ سؤال منكر ونكير في القبر حق ، وأنَّ عذاب القبر حق ، والبعث من القبور حق ، والعرض على الله تعالى حق ، والحوض حق ، والميزان حق ، وتطاير الصحف حق ، والصراط حق ، والجنة والنار حق ، وفريقا في الجنة وفريقا في السعير حق ، وأنَّ كرب ذلك اليوم على طائفة حق ، وطائفة أخرى { لا يحزنهم الفزع الأكبر } حق ، وأنَّ شفاعة الأنبياء والملائكة وصالحي المؤمنين حق ، وشفاعة أرحم الراحمين حق ، فتشفع أسماء الحنان والرحمة ، عند أسماء الجبروت والنقمة .

وكذلك نؤمن بأنَّ إيمان أهل النار كفرعون وغيره غير مقبول ولا نافع ، وأنَّ جماعة من أهل الكبائر من الموحدين يدخلون جهنم ثم يخرجون بالشفاعة حق ، وأنَّ كل ما جاءت به الكتب والرسل من عند الله تعالى عُلم أو جُهل حق ، وكذلك نؤمن بأنَّ التأبيد للمؤمنين في النعيم المقيم حق ، والتأبيد للكافرين والمنافقين والمشركين والمجرمين حق .

فهذه عقيدة القوم رضي الله عنهم أجمعين ، وعقيدة عليها حيينا وعلينا نموت كما هو رجاؤنا في الله عز وجل ، فنسأل الله من فضله أن ينفعنا بهذا الإيمان ، ويثبتنا عليه عند الانتقال إلى الدار الحيوان ، ويحلنا دار الكرامة والرضوان ، ويحول بيننا وبين دار سرابيل أهلها قطران ، ويجعلنا من العصابة التي تأخذ كتبها بالأيمان ، وممن ينقلب من الحوض وهو ريان ، ويرجح له الميزان ، ويثبت منه على الصراط القدمان ، إنَّه المنعم المحسان ، آمين اللهم آمين .

فأمعن يا أخي النظر في هذه العقيدة فإنها عظيمة ، وإن حفظتها عن ظهر قلب كان أولى ، والله يتولى هداك . اهـ


* أي لتعمل بالتقوى وتجتنب الفجور
Share this article :
 
Support : Creating Website | Johny Template | Mas Template
Copyleft © 2011. موقع أهل السنة والجماعة - All lefts Reserved
تعريب وتطوير : موقع أهل السنة والجماعة
Proudly powered by Blogger